استكشاف أبرز الأنظمة القتالية العسكرية اليدوية:
في عالم تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا العسكرية، وتتطور الأسلحة بوتيرة لم يسبق لها مثيل، قد يتبادر إلى الذهن أن القتال اليدوي أصبح مجرد ذكرى من الماضي. ومع ذلك، لا تزال الأنظمة القتالية العسكرية تشكل ركيزة أساسية في تدريب الجنود، القوات الخاصة، وحتى أفراد إنفاذ القانون حول العالم.
![]() |
أبرز الفنون القتالية العسكرية في العالم. |
إنها ليست مجرد مجموعة من التقنيات للاشتباك المباشر، بل هي فلسفة متكاملة تُعزز القدرة على البقاء في أصعب الظروف، تُصقل الانضباط الذاتي، تُنمي الصلابة الذهنية، وتُمكن المقاتل من التعامل مع التهديدات في المواقف التي قد لا تُجدي فيها الأسلحة النارية نفعا، أو عندما يكون الاستخدام المفرط للقوة غير وارد.
بعيدا عن الروائع السينمائية والاستعراضات الرياضية، تُركز الفنون القتالية العسكرية على الفعالية القصوى، الكفاءة في إنهاء المواجهة، والقدرة على التكيف مع بيئات معقدة ومتغيرة. في هذا المقال، سنغوص في عالم أبرز الأنظمة الحديثة للفنون القتالية العسكرية، مستكشفين الفلسفات الكامنة وراءها، التقنيات التي تُركز عليها، وكيف تُعد الجنود لمواجهة التهديدات في أشد الظروف قسوة.
مفهوم القتال العسكري اليدوي الحديث:
الفنون القتالية العسكرية، أو ما يُعرف أيضا بالقتال اليدوي العسكري أو قتال الاشتباك القريب (Close-Quarters Combat - CQC)، هي مجموعة من الأساليب والتقنيات التي تُصمم لتدريب الأفراد العسكريين على التعامل مع المواقف التي تتطلب المواجهة المباشرة غير المسلحة أو المسلحة بأسلحة يدوية.
هذه الأنظمة ليست مجرد فنون قتالية رياضية؛ إنها برامج تدريب مكثفة مصممة لتمكين الجنود من الدفاع عن أنفسهم، السيطرة على الخصوم، وتجاوز التحديات الجسدية والنفسية في المواقف بالغة الخطورة، وغالبا تحت الضغط الهائل. وبشكل عام، يختلف القتال اليدوي العسكري بشكل جوهري عن فنون الدفاع عن النفس الرياضية أو المدنية. فبينما تُركز هذه الأخيرة على الدفاع عن النفس أو الفوز بنقاط في المسابقات، تُركز الأنظمة العسكرية على ما يلي:
- الفعالية القصوى (Maximum Effectiveness): الهدف هو تحييد التهديد بأسرع وأكثر الطرق فعالية ممكنة، وغالبا ما يكون ذلك يعني إنهاء القتال بشكل حاسم. لا مجال للعب النظيف أو النقاط.
- الواقعية القاسية (Brutal Realism): تُصمم التقنيات لمواجهة سيناريوهات الحياة أو الموت، والتي قد تتضمن خصوما مسلحين، بيئات معادية، أو الحاجة للتعامل مع أكثر من مهاجم.
- التكيف مع المعدات (Adaptability to Gear): يجب أن يتمكن الجندي من القتال بفاعلية وهو يرتدي زيه العسكري الكامل، بما في ذلك الخوذة، السترة الواقية، وحمل الأسلحة والمعدات الأخرى. هذا يُؤثر على المدى، التوازن، والتقنيات المستخدمة.
- الحفاظ على الوعي الظرفي (Situational Awareness): الجندي يجب أن يكون قادرا على القتال مع الحفاظ على وعيه بما يدور حوله، لتقييم التهديدات الإضافية أو فرص الهروب.
- متعددة الأغراض (Multi-Purpose): لا تقتصر على الدفاع؛ بل تشمل السيطرة، الاحتواء، نزع سلاح الخصم، وحتى تقنيات الاستجواب والتحكم.
وبناء على ما سبق ذكره، تختلف الفنون القتالية العسكرية عن الفنون القتالية الرياضية من عدة جوانب، في مقدمتها أن الفنون القتالية العسكرية تُركز على الفعالية القصوى والبقاء على قيد الحياة في مواجهة حقيقية، مع استخدام أي وسيلة ضرورية. أما الفنون القتالية الرياضية تُركز على المنافسة ضمن قواعد محددة وتهدف إلى تحقيق النقاط أو الفوز بالخضوع بطريقة آمنة.
أبرز الأنظمة القتالية العسكرية وتكتيكاتها:
على مر التاريخ، طورت الجيوش المختلفة أنظمة قتالية خاصة بها، أو اقتبست من فنون أخرى لتلبية احتياجاتها. إليك أبرز هذه الأنظمة التي تُعرف بفعاليتها:
أولا: الكراف ماغا (Krav Maga) - القتال الإسرائيلي العملي
يُعد الكراف ماغا (بالعبرية تعني "القتال بالاتصال") أحد أشهر وأكثر أنظمة القتال العسكري شهرة وفعالية في العالم. نشأ في إسرائيل كفن قتالي عملي دفاعي، وتم تطويره ليناسب احتياجات القوات العسكرية والأمنية.
- الفلسفة:
يقوم الكراف ماغا على مبدأ "اللا قواعد" و"الفعالية أولا". لا يُركز على الحركات الجميلة أو الرياضية، بل على ردود الفعل الطبيعية للجسم، وتكييفها للدفاع عن النفس وتحييد التهديد بأسرع وأكثر الطرق المباشرة الممكنة.
- التقنيات الأساسية:
- تجنب الخطر (Avoidance): تعليم المتدرب كيفية تفادي المواجهة إن أمكن، أو على الأقل التعرض لأقل الأضرار.
- الهجمات المباشرة والسريعة (Direct and Fast Attacks): التركيز على نقاط الضعف في جسم الخصم (العينين، الحلق، الأعضاء التناسلية).
- نزع السلاح (Disarms): تدريب مكثف على كيفية نزع سلاح المعتدي (سواء كان سكينًا، مسدسًا، أو أي سلاح آخر) بأقل قدر من المخاطر.
- الاستفادة من الأجسام المحيطة (Utilizing Environment): استخدام أي شيء متاح كأداة للدفاع أو الهجوم.
- التعامل مع مهاجمين متعددين (Multiple Attackers): استراتيجيات للتعامل مع أكثر من مهاجم في آن واحد.
- الدفاع ضد التهديدات الشائعة: عن طريق استخدام تقنيات الدفاع عن النفس مثل الخنق، القبضات، والطعن وغيرها.
- التدريب: يتسم التدريب في الكراف ماغا بالواقعية الشديدة، وغالبًا ما يتضمن سيناريوهات تحت الضغط، في ظروف إضاءة مختلفة، وحتى تحت تأثير الإرهاق. يهدف إلى غرس الاستجابة الغريزية.
وعموما، يُستخدم الكراف ماغا على نطاق واسع من قبل القوات الخاصة، وحدات الشرطة، وأجهزة الأمن في دول عديدة حول العالم نظرًا لفعاليته وقابليته للتطبيق السريع في السيناريوهات الواقعية.
ثانيا: فنون القتال المختلطة العسكرية (Military MMA/Combatives) - التكيف والاندماج
مع تزايد شعبية فنون القتال المختلطة (MMA) في العالم المدني، بدأت العديد من الجيوش في دمج مبادئها في برامجها التدريبية للقتال اليدوي. لا يُعد هذا نظامًا واحدًا، بل هو نهج يجمع بين عناصر مختلفة:
- الفلسفة:
يعتمد على مبدأ أن القتال الحقيقي نادرا ما يقتصر على أسلوب واحد (مثل الضربات فقط أو المصارعة فقط). لذا، يجب أن يكون الجندي مُتعدد الاستخدامات، وقادرا على الانتقال بسلاسة بين:
- القتال وقوفا (Striking): استخدام اللكمات والركلات من الملاكمة، الموياي تاي، أو الكاراتيه.
- الاشتباك/التشابك (Clinch Work): تقنيات السيطرة على الخصم من مسافة قريبة، مثل استخدام المرفقين والركب (من الموياي تاي) أو السيطرة على الرقبة.
- المصارعة والإسقاط (Wrestling and Takedowns): القدرة على إسقاط الخصم أرضًا أو الدفاع ضد محاولات الإسقاط (من المصارعة الأولمبية أو الجودو).
- القتال الأرضي (Ground Fighting): السيطرة على الخصم على الأرض، أو إخضاعه باستخدام تقنيات الخنق والإمساك المشتركة (من الجيو جيتسو البرازيلي).
- التدريب: يُركز على التدريب الوظيفي الذي يحاكي سيناريوهات القتال الكاملة، وغالبا ما يشمل تمارين "الاشتباك الحر" (Sparring) لزيادة الواقعية. الهدف هو أن يكون الجندي مُتأقلما مع جميع مراحل القتال.
تتبنى العديد من الجيوش الغربية، مثل القوات الخاصة الأمريكية، هذا النهج كجزء من تدريبها الشامل.
ثالثا: سامبو القتال (Combat Sambo) - المدرسة الروسية القاسية
السامبو (SAMBO) هو فن قتالي سوفياتي، اختصار لعبارة "دفاع عن النفس بدون أسلحة". يُقسم إلى سامبو رياضي (شبيه بالجودو والمصارعة) وسامبو قتالي، وهو النوع الذي تُركز عليه القوات العسكرية والأمنية الروسية.
- الفلسفة:
صُمم السامبو ليكون نظاما قتاليا شاملا وفعالا للغاية، يجمع بين أفضل تقنيات المصارعة، الجودو، والفنون القتالية الأخرى من جميع أنحاء العالم. يُركز السامبو القتالي بشكل خاص على الواقعية وتكييف التقنيات للاستخدام في ظروف المعركة.
- التقنيات الأساسية:
- الإسقاطات (Throws): مجموعة واسعة من تقنيات الإسقاط من الجودو والمصارعة.
- الإخضاعات (Submissions): تقنيات مفاصل اليد والقدم، الخنقات، وحركات الإخضاع الأخرى.
- الضربات (Strikes): يُسمح باللكمات، الركلات، الضربات بالمرفق والركبة، والضربات بالرأس.
- نزع السلاح (Disarming): تدريب على كيفية التعامل مع الأسلحة ونزعها.
- الدفاع ضد الأسلحة (Weapon Defense): التعامل مع التهديدات بالسكاكين، العصي، والأسلحة النارية.
- التعامل مع مواقف القتال المتنوعة: سواء كان القتال وقوفا أو على الأرض.
- التدريب: يتسم بالشدة والتركيز على القدرة على التكيف. غالبا ما يتدرب الجنود في ظروف تحاكي بيئة المعركة، مع ارتداء المعدات الواقية.
وباختصار، يُعد السيستما مكونا أساسيا في تدريب العديد من وحدات القوات الخاصة الروسية، وقد اكتسب شعبية عالمية بين القوات العسكرية ووكالات إنفاذ القانون لنهجه الفريد في القتال.
رابعا: دفاعات الجودو والجوجيتسو البرازيلية للقتال القريب
بينما تُركز بعض الأنظمة على الضربات، تُقدم فنون المصارعة والإخضاع، مثل الجودو والجوجيتسو البرازيلية، حلولا قوية للقتال القريب، خاصة في سيناريوهات الإمساك والسيطرة.
- الجودو (Judo): فن قتالي ياباني يركز على الرميات والإخضاع. على الرغم من أصوله الرياضية، فإن مبادئه الأساسية تُعد فعالة جدًا في القتال العسكري:
- استخدام قوة الخصم ضده: مبدأ أساسي في الجودو، حيث يتم استغلال زخم وقوة الخصم لإلقائه أو السيطرة عليه.
- تقنيات الرمي (Throws): القدرة على إلقاء الخصم على الأرض بسرعة، مما يُفقده توازنه ويُهيئ لإنهاء المواجهة.
- تقنيات الإخضاع (Submissions): الشنق وتثبيت المفاصل للسيطرة على الخصم أو إجباره على الاستسلام.
- السيطرة على الأرض (Ground Control): القدرة على تثبيت الخصم على الأرض ومنعه من الحركة.
- الجوجيتسو البرازيلية (Brazilian Jiu-Jitsu - BJJ): مشتقة من الجودو الياباني التقليدي، تُركز الجوجيتسو البرازيلية بشكل كبير على القتال الأرضي وتقنيات الإخضاع.
- مبدأ أن اللاعب الأضعف يمكنه التغلب على الأقوى: من خلال الاستفادة من الرافعة، التوقيت، وتقنيات الإخضاع المشتركة.
- القتال الأرضي المتخصص: تُعد من أقوى الفنون القتالية في المواجهات الأرضية، حيث تُعلم كيفية السيطرة على الخصم، التخلص من المواقف السيئة، وتطبيق الإخضاعات.
- الدفاع ضد الأسلحة: بينما تُركز أساسًا على القتال غير المسلح، تُقدم بعض برامج BJJ تقنيات للتخلص من تهديدات الأسلحة على الأرض.
تُدمج العديد من الجيوش، وخاصة القوات الخاصة، عناصر من الجودو والجوجيتسو البرازيلية في تدريباتها للتعامل مع سيناريوهات القتال اليدوي، إخضاع المشتبه بهم، أو السيطرة على الأعداء في المواجهات القريبة حيث قد لا يكون استخدام الأسلحة النارية خيارًا.
أنظمة قتالية متخصصة أخرى:
إلى جانب الأنظمة الرئيسية المذكورة، تستخدم العديد من الجيوش والقوات الخاصة أنظمة أو مزيجا من الأنظمة المتخصصة:
1- تدريبات الوحدات الخاصة (Close-Quarters Battle Combatives):
تُركز هذه الأنظمة على القتال في الأماكن الضيقة، مثل المباني أو داخل المركبات. تتضمن تقنيات سريعة وقوية للتحييد، والتحكم، واستخدام الأسلحة البيضاء. غالبًا ما تكون مُشتقة من الجيو جيتسو البرازيلي، الملاكمة، وتقنيات السيطرة الشرطية.
2- أنظمة المشاة البحرية الأمريكية (Marine Corps Martial Arts Program ):
برنامج شامل يُدمج عناصر من العديد من الفنون القتالية (الملاكمة، التايكوندو، الكاراتيه، الكونغ فو، الجودو، جيو جيتسو، وغيرها). يهدف إلى تطوير قدرة المقاتل على القتال في جميع مراحل الصراع، من القتال غير المسلح إلى استخدام الأسلحة البيضاء والأسلحة النارية.
3- برامج الجيش البريطاني (British Army Combatives):
تُركز على الفعالية والواقعية، وتستلهم الكثير من الجيو جيتسو البرازيلي والملاكمة والمصارعة. تُصمم لتمكين الجنود من السيطرة على الخصوم في ظروف قتالية حقيقية.
وخلاصة القول، تُشكل الفنون القتالية العسكرية ركيزة أساسية في تدريب الجنود والقوات الخاصة في العصر الحديث. بعيدا عن اللياقة البدنية والمهارات القتالية، تُنمي هذه الأنظمة الصلابة الذهنية، القدرة على اتخاذ القرار تحت الضغط، والوعي الظرفي الذي لا يُقدر بثمن في المواقف عالية المخاطر.
خاتمة:
في خضم التطور التكنولوجي المستمر في ساحة المعركة، تظل القدرة على القتال اليدوي حجر الزاوية في تدريب الجنود العصريين. إن الأنظمة القتالية العسكرية الحديثة ليست مجرد مجموعة من الحركات، بل هي فلسفة شاملة تُعد الجندي جسديا وذهنيا ونفسيا لمواجهة أقصى التحديات. سواء كان الأمر يتعلق بالفعالية المتناهية للكراف ماغا، أو الشمولية التكيفية لفنون القتال المختلطة، أو القوة الخام لسامبو القتال، فإن الهدف الأسمى يبقى واحدا، ألا وهو تزويد المقاتل بالقدرة على البقاء والانتصار عندما تفشل جميع الخيارات الأخرى.